fbpx
في الذكرى الثانية عشرة لرحيله.. الشيخ العصامي عمر قاسم العيسائي(1919-2008م) … (3)
شارك الخبر

كتب – د.علي صالح الخلاقي
صفاته الإنسانية
الشيخ عمر قاسم علَمٌ عنوانه الإنسانية والكرم, عاش للآخرين أكثر مما عاش لنفسه، ويدرك كل من عرفه في حياته أنه قد افتقده بالفعل ويبقى مكانه في القلب خاليا. فقد كانت للشيخ عمر شخصية «كاريزمية» شديدة الجاذبية تأسر بألفتها، وبعفويتها وتلقائيتها من حولها. شخصية فذة لا تتكرر كثيرا بين رجال الأعمال، تغلبت فيه صفات الإنسان على صفات رجل الأعمال, فهو من صنف الرجال الذين لم يكونوا يعدون التجارة مهنة, بل رسالة وأمانة,  ويجوز القول فيه أنه جعل بعطائه وأخلاقه من سمعة التاجر أقوى وزنا من أمواله, وهذا قمة الأخلاق, وحس التعامل مع الناس, فلم يكن العمل التجاري هو المقياس الوحيد لحضوره وتأثيره الكبير في المجتمع, بل أن أخلاقياته وتعامله مع كل الناس وسعيه في الخير والصلح بين الناس ورجال الأعمال, جعلت منه شخصية محورية ومثالاً لأخلاقيات الرجل المكافح في الحياة والمحبوب بين الناس.
عُرف بتواضعه, ونقاء سريرته, ومناقبه وسجاياه النبيلة في الكرم والشهامة والأخلاق وحب الخير لا حصر لها, وهي صفات لصيقة به منذ بداياته التجارية الأولى وحتى آخر حياته. فقبل أن يقف على قدميه كان يضع مدّخراته لدى الشيخ صالح حسين بن شيهون الذي كان مستودع الأمانات لأهل يافع ومسكنه في حارة الاتحاد بكريتر.. وكان رجلاً جاداً بالغ الصّرامةً، وقد طلب منه الشيخ عمر أمانة مودعة لديه، فظن الشيخ صالح أنه قد أخذها وكان رده كعادته قاطعاً مانعاً، فتبسم الشيخ عمر الذي كان في عنفوان الشباب وأجابه: لعلـّني أخذتها ونسيت فسامحني. ثم خرج.. و«لعب الفار في عب الشيخ صالح» فقام بجرد كل الأمانات وتدقيقها حتى وجد أمانة الشيخ عمر فاستدعاه واعتذر له وسلمه ما أودعه، عاتباً عليه أنه لم يلحّ في طلب حقه لتنبيهه، فقال له: أنا كنت متأكدا مئة في المئة أنك ستجدها وستستدعيني فمن يعدل إذا لم تعدل أنت يابن شيهون؟.. جَبَرَ خاطر الشيخ واسترد حقـّه( ).
الشيخ عمر سيرة ممدودة وسريرة محمودة، وإذا كان كثيرون قد تسابقوا إلى قمم الأعمال ووصلوا إليها فإنه بين قليلين ظلوا على القمة محافظين على توازنهم وعلاقاتهم وحسن تسيير أعمالهم, واجتمعت فيه البساطة والعظمة معاً, فقد كان بسيطاً في كل شيء وعميقـاً فـي كل شيء, ليصبح مدرسة كبيرة بدءًا من التعامل مع البضاعة البسيطة وانتهاءً بعلاقته بالملـوك والرؤساء وكـبار القوم من المشتغلين في التجارة أو  السياسة, ولم يكن يستـثـني من ذلك البسطاء من البشر بغض النظر عـن انتماءاتهم الجغرافية أو مواطنهم على اختلافها, إذ لم يكـن يميز المصري عـن السوداني عــن المغربي عـن اليمني عـن الياباني عـن اللبناني فكانوا جميعهم حوله كخلية نحـل تربطهم عــُـرى المحبة والاحترام ومعانــي التقدير الإنسانية, وهذه الأخلاقيات العالية في تعامله مع مختلف طبقات المجتمع شكلت منهجا متكاملا لحياته دون افتعال أو تظاهر, وكانت إنسانيته تتدفق كتدفق الماء من الينبوع الصافي الرقراق العميق الغور، بحيث لا ينفد مخزونه أبداً.
والشيخ عمر رجل عائلي ومحافظ يحب التمسك بالعادات والتقاليد إلى حد بعيد ولم يغير نجاحه في هذه الثوابت وهو أبٌ مرحٌ حنون, له ثلاثة أولاد احترفوا العمل التجاري جميعاً على غرار والدهم وثلاث بنات آثرن الاستقرار وإنشاء أسر خاصة بعيداً عن سوق العمل, وقد زرع في أولاده محبة الناس ومساعدتهم قبل كل شيء, فمحبة الناس نعمة من الله لا تشترى بالمال ولا يدرك قيمتها إلا القليل وكان هو منهم( ).
ولعل المثل الأعلى في سيرة هذا الرجل الكبير- ولله المثل الأعلى- هو إحسانه إلى أهله الأقربين، كبارآً وصغاراً رجالاً ونساءً، فأخذ بأيديهم جميعاً ، لا ليكونوا ضيوفاً في مملكة أعماله، أو عالة عليها، وإنما بناهم وقربهم ودربهم وفتح أمامهم المجالات التي يقتدرون عليها، تماماً كأبنائه وبناته. ثم أفاض من خيره على المحتاجين من الناس وأولئك الموهوبين في دنيا الأعمال، من الأصدقاء والمعارف وحتى الغرباء وكان في نهجه هذا كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء.
ويحسن بنا، والحديث عن صفاته الإنسانية  أن نورد بعض ما قيل فيه. فهو علم من معالم الكرم والإنسانية، وخير رمز للبر والتقوى والعطاء والمواقف النبيلة.. أمير الباذلين.. كثير البر والإحسان.. أبُ الأيتام. ومن أجمل ما عرفنا عنه أنه لم يستحوذ أبداً على حقوق الغير، أو يخطف الوكالات التجارية باستغلال نفوذه وثروته وثقة الشركات به، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خلقه الأصيل ونزوعه لحب الخير للجميع، وهذا ما يفتقده الكثيرون ممن تسيل الأموال بين أيديهم بطرق غير شرعية( ).
نعم.. لله ما أنبله من إنسان أحبه الناس لإنسانيته وسمو أخلاقه وشهامته وتواضعه الجم وطيبته التي لم تبلوها الأعوام، ولم تغيرها الشهرة والثروة، فكان حب الناس له ثروة لا تضاهيها الأموال والثروات.
شوقه لمسقط رأسه
   لم تتح الفرصة للشيخ عمر لزيارة مسقط رأسه يافع ومدينة عدن التي بدأ فيها مشوار نجاحه وشهرته كأحد رجال المال والأعمال منذ أن تعرض وزميله الشيخ علي وغيرهم من رجال المال والأعمال لضربة التأميم القاصمة..لكنه ظل على ارتباط وجداني بوطنه الأم وبأهله وناسه, وكان يتابع أخبار الأهـل والوطن أولاً بأول من خلال الاستماع إلى ما ينقله له الزائرين القادمين مـن الوطن حيث كان يبادرهم بالسؤال عـن  حال الناس والأهل, وكان ينصت بشغـف وولع إلى الحديث, وبالذات حين يشمل ذكراً للمواقـع التي رسخت بذاكرته ولم تغادرها, فإذا به فجأة وكتعبـير عـن حالة الحنين الخفي لتـلك المواقـع التي تركها أيام الصبا, تجده يتجه بتلقائية المحب إلى الصورة الكبيرة التي تـزيـن مكتبه الجميل ليشير بأصبعه إلى المواقع الكثيرة, مستذكرا بقــوة شديدة أسماءها وأسماء الناس الذين التقاهـم  في رحلاتــه يومها, ولطالما تكـررت أحاديثه عـن ذلـك, بل أن أجمل الأحاديث لديه كانت تلك التي يعود فيها إلى أيام الطفولة والصبا, وصور المعاناة الـتي دفعته نحو الهجرة من أجل أن يعود ببندقية يظهر بها أمام الرجال, معلناً أنه أصبح رجلاً يستحق الاعتراف به كمقاتـل في عُرف القبيلة, إلاَّ أن عزمه وحظوظه حقـقـت مدى أبعـد كثيراً من أحلامه البسيطة تفـوق الخيال0
 كان في قرارة نفسه يحمل حنيناً خفياً وأشواقاً لا تحصى للمنطقة,  وكان أصدقاؤه يكررون على مسامعه طلبهم ليقوم بزيارة البلاد, فكان يقول:” مادام  في العمر بقية سنزورها باذن الله “, وشاء الله أن لا يتحقـق الوعـد ولا الحلم, وهذه إرادته عـز وجل( ).
   ويكفيه فخراً أن مسقط رأسه الذي لم تبارح وجدانه وأشواقه قد كانت حاضره في أجندته الخيرية حيث شملتها عنايته في كثير من المجالات لعل أبرزها  تشجيعه الكبير للعلم والتعليم وموقفه الداعم لتأسيس كلية التربية في يافع ودعم كثير من المدارس والمراكز الصحية وتقديم يد العون للمحتاجين كما أسلفنا, ولم يقتصر الأمر على ذلك, فإلى جانب عطاءاته الكبيرة كان في الأعوام الأخيرة قد كلف الأخ سالم صالح محمد( ) لمتابعة إنشاء سد كبير لحصر المياه في وادي “بنا” لتعزيز مشروع الـمياه القائم بعد أن تناهي إلى سمعه أن هناك صعوبات  يواجهها  المشروع, وبعـد جهود كبيرة بُذلت, وبسبب من تلكـؤ جهات الاختصاص بتقديم الدراسات المطلوبة ومرضه الذي داهمه وأقعده طريح الفراش لم يكتب للمشروع النجاح الذي كان يريد أن يقوم به من أجـل ضمان مياه الشرب للمنطقة كلها, ويبقى الأمل معقود على أبنائه الكرام لتحقيق ما كان يريد أن يحققه لأهله في آخر حياته.
*********
(من الورقة المقدمة إلى ندوة “ظاهرة الهجرة اليافعية عبر التاريخ – تحت عنوان شخصيات مهاجرة, التي عقدت في قاعة الشيخ عمر قاسم العيسائي بكلية التربية يافع يوم 24سبتمبر2019م ونظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر)..
يتبع غداً الجزء الخامس…
أخبار ذات صله