fbpx
تآكل المنظومة المجتمعية اليمنية في ظـل الحروب والنزاعات الحالية؟

علي هيثم الغريب المحامي
أن تآكل المنظومة المجتمعية لليمن سيكون أحد أهم أوجه انهيار الدولة اليمنية ،وما ظهور هذا التمرد العام في صنعاء إلا دليل على نهاية الهوية السياسية اليمنية التي ظهرت عام 1918 بناء على الهوية الجهوية التي ساعدته كثيرا على البقاء وخدمته من الناحية الجغرافية.
واليوم أن عوامل الأزمة آخذة في التفاقم وستؤدي إلى الانهيار إذا بقيت صنعاء متشبثة باحتلال الجنوب؛ لأن مقوِّمات حياة الدولة اليمنية عبر التاريخ ليست من داخله، وإنما من خارجه، فهو لا يحقق لنفسه الاستمرار من خلال جهد الشعب اليمني ، وإنما من خلال الدعم الأقليمي والدولي السياسي والاقتصادي والعسكري ـ المستمر منذ ثورة 26 سبتمبر 1962م.
تجتاح اليمن بين حين وآخر موجة من الحروب الأهلية , والتمزق الذي قد يعيد اليمن جنوبه(أب وتعز) وشماله (صعدة وحجة) إلى ما كان عليه حاله عام 1918م .. والملفت أن هذه الأطراف المتصارع(قبلية , دينية-مذهبية وعسكرية وتجارية) ليسوا مجرد نخب تعبّر عن الهوامش السياسية في المجتمع اليمني , بل إنهم من الشخصيات التي لها دور بارز في عملية صنع القرار، وهم من أسسوا الدولة اليمنية(اليمن) بعد خروج الأتراك نتيجة هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى , وهم من الذين ارتبطوا طويلاً بحكم اليمن , وبالمؤسسة الحاكمة، وأصبح ألف عام من التاريخ اليمني ملكا لهم , ومن بين تلك الأطراف , الزيدية(الحوثيين وبكيل وحاشد وسكان صنعاء) والشوافع (تعز وأب والحديدة ومأرب وغيرها من جنوب وشرق اليمن). ونرى في هذا السياق أن اليمن تتعرّض لنوعين من التهديد الإستراتيجي: أولهما خارجي يمثّله فشله في ردع الحراك الجنوبي السلمي الذي يطالب بدولته التي احتلت عام 1994م , وثانيهما التهديد الداخلي المتمثّل في الفساد وتآكل ما يسميه “منظومة القيم القبلية والمذهبية”. وكما كان الجنوب العربي هو السبب في ضياع الدولة القاسمية التي أحتلته سنة 1054 هـ, أصبح اليوم , وهو يعيش تحت الاحتلال , السبب في تجزئة اليمن إلى أقاليم متناحرة وفقيرة وغير مستقرة. وهناك مجموعة تحديات ومتغيرات لإنهيار اليمن باتت في طور التشكل الأول.
وعلى الرغم من انتصار اليمن في بعض حروبها الكبيرة مع الجنوب منذ أكثر من خمسمائة عام, إلا أن تلك الانتصارات فشلت في اجتثاث روح المقاومة والتحدّي لدى القبائل والسلطنات الجنوبية , واليوم يعيش الشعب الجنوبي نفس المرحلة في محاربة الاحتلال اليمني. وكما أستعانوا بالأمس بالفرس(سيف بن ذي يزن الملك الذي اصر على تحرير اليمن من حكم الاحباش) , هم أيضا أستعانوا بإيران عام 1994م لمواجهة الجنوب , وأستعانوا بالمجتمع الدولي اليوم لمواجهة الحراك الجنوبي السلمي.
ونرى أن ما يمكن أن يجعل الأمور أكثر صعوبة وتعقيداً في وجه مستقبل الدولة اليمنية ومصيرها إنما يكمن في الوحدة مع الجنوب العربي بالقوة , بل وأسلمة الوحدة واكتسابها بعداً دينياً عقائدياً يزيد من رقعة العداء والكراهية لليمن ويجعل الشعب الجنوبي أكثر تصميماً على طردهم. ونعتبر أنه من الحماقة الإنطلاق من افتراض مفاده أن الشعب الجنوبي سيبقى ضعيفا نتيجة الحصار السياسي والإعلامي والاقتصادي الأقليمي والدولي ، بل ونجزم القول ونؤكد أن اليمن قد تستيقظ في يوم من الأيام وقد قسمت إلى أقاليم/دول , تديرها أنظمة حكم ذات توجهات عشائرية ومذهبية أو راديكالية. والجنوب يعيش ثورة شبيهه بثورة يافع ضد الدولة القاسمية , ثورة لا ترفض التواجد اليمني من أساسه فحسب بل تجنّد كل طاقاتها لإزالة أسم اليمن بشكل عام , كما أزيلت الدولة القاسمية. ونحن نسخر من أولئك الذين يراهنون على التفوّق العددي للشعب اليمني ، فالعدد لم يعد مؤثرا أمام التكنلوجيا الحديثة. وفي حال توافرت الإرادة السياسية للجنوبيين في توحيد صفوفهم فإن طرد الاحتلال اليمني سيتم خلال أسابيع.
من ناحية أخرى علينا اليوم رصد مظاهر تحلل «منظومة الحكم في اليمن» مثل ميل بعض أطراف الحكم إلى عدم التضحية من أجل الوحدة التي أدت أصلا إلى إعادة تقسيم اليمن نفسه , والذي يعكسه تهاوي الدافعية في صفوفها للإلتحاق في صفوف الوحدات المقاتلة في الجنوب ، ما عدا حماية آبار النفط والثروات التي تمتلكها مؤسسة الحكم التي تنظر للوحدة من خلال تلك الآبار النفطية الجنوبية, الأمر الذي جعل عبء العمل العسكري يقع على كاهل نسبة قليلة من اليمنيين ولا سيما في صفوف النخب الدينية والعسكرية –القبلية المتطرفة. المرفوضة من قبل الشعب اليمني.ثم أن الحرب بين سنة حزب الاصلاح وزيدية الحوثيين التي جرى معالجتها عبر اللجان الرئاسية وبشكل توافقي ستتفجر لاحقاً وربما قريباً وبأشكال مختلفة.
وهناك حقيقة لا تقبل الدحض وهي أن الأسر الحاكمة في صنعاء لم تعد مثالاً تقتدي به أغلب القبائل وكذلك الشباب . وقد تحوّلت الشبهات والإدانات بشأن تورّط مشائخ وقادة عسكريين وعلماء دين في الفساد المالي أو الأخلاقي، الى مادة دسمة يتناولها الصحافيون والمعلقون وأصحاب الرأي في وسائل الإعلام اليمنية . وكانت صرخة الثوار الشباب وهم يرون كيف دمرت أحلامهم الثورية الصادقة بعد المبادرة الخليجية , مدوية وغير مسبوقة عندما قالوا إن جماعات الإجرام المنظم من حزبي المؤتمر والاصلاح التابعة للمؤسسات القبلية والعسكرية والدينية والتجارية في طريقها للسيطرة على الحكم من جديد. والأنكى من هذا أن تورّط السياسيين من النظام السابق في قضايا القتل الجماعي للجنوبيين وقضايا الفساد المختلفة لم يشكّل حائلاً دون عودتهم لتبوء مناصب حساسة مرة أخرى في حكومة الوفاق. والملفت للإنتباه أن مراكز دراسات الرأي العام المتعددة الإتجاهات , أثبتت أن 70٪ من اليمنيين يعتقدون حالياً أن عصابات نهب الأموال والأملاك العامة المنظمة قد تسلّلت بالفعل الى داخل حكومة الوفاق لتستفيد من مرحلة الضعف الحالية التي تعيشها الدولة . وإنه توجد في صنعاء اليوم سلطتان: سلطة المسئولين الحكوميين وسلطة رؤساء عصابات النهب والسلب المنظمة , ويوجد بينهما تآلف وإنسجام . وهذه العصابات قامت بمحاولات ناجحة للسيطرة على الأسلحة الحكومية والمساعدات الخارجية وعلى توجيه نشاط المنظمات الدولية والبنك المركزي ، الأمر الذي أدى الى انهيار منظومة فرض الأمن والقانون الذي جاء من أجله المجتمع الدولي عام 2011م , وهو أساس بنى الدولة. علاوة على أن كبار المسئولين في حكومة الوفاق يحصلون على العديد من الإمتيازات من قبل هذه العصابات , وبحيث أن العطاءات الحكومية تفصّل على قياس مانحي الرشى من هذه العصابة، وبالتالي تبذل الجهود الملائمة من قبل تلك العصابات التابعة لمؤسسة الحكم القبلية والدينية والعسكرية للتأثير على التعيينات في المناصب الحساسة بما في ذلك مناصب رئيس الوزراء والداخلية والقضاء.
إذن فاليمن يعيش مأزق وطني وسياسي خاصة بعد رفض نظام صنعاء التجاوب مع رغبة الجنوبيين لحل الصراع عن طريق التفاوض الندي , فالتفاوض الندي يحمل في طياته بقاء اليمن موحدا وكذلك الجنوب موحدا. وبهذا الخصوص وجّهنا انتقاداً حاداً للمجتمع الدولي الذي يدعم مشروع تقسيم الدولتين , الدولة اليمنية والدولة الجنوبية ,ويرفض أن تعودان كما كانتا عام 90م , ودعينا اليمنيين الى عدم قبول هذا التقسيم الذي سيفرز في اليمن اقاليم متصارعة حتما في ظل عدم وجود الدولة القوية ستتحول إلى دول , وأن التفاوض بين اليمن والجنوب هو أسهل الطرق لمعالجة قضايا اليمن والجنوب ، وقد أكدنا مرارا وتكرارا أن تخليد الوحدة هو الذي سيؤدي الى تصفية وجود الدولة اليمنية نفسها. والإنهيار الداخلي الذي تسير فيه اليمن هو أخطر من بقاء الوحدة مع الجنوب.
وتكمن في هذه القضية (الحرب بين سنية الاصلاح وزيدية الحوثيين) النموذجية أزمتان داخليتان في المجتمع اليمني ، من جملة الأزمات الداخلية(تقسيم اليمن إلى اربعة أقاليم والناحية الأقتصادية وقاعدة النظام السابق) التي لا بد أن تتفاقم أكثر مستقبلاً، رغم محاولات اللجان الرئاسية الرسمية بث أوهام للتقليل من شأن هذه الأزمات؛ وإذ يسعى المجتمع الدولي لدفعها جانباً بشكل مؤقت، ولكن ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة هو نموذج صغير لأزمات وانفجارات داخلية أكبر ستشهدها “اليمن” في السنوات المقبلة.
أن تنامي المد الحوثي بفعل الإنتصارات التي حققها في كل حروبه مع النظام ومع القبائل ,وتكاثره الطبيعي في صنعاء قد جعلهم اليوم يسيطرون كلياً على محافظات وقرى بأكملها، وأبرز حضور لهم في صنعاء وما حولها ، وأينما ينتصرون ، نجد في المقابل حركة نزوح للمشائخ والاحزاب المهزومة ، وبشكل خاص إلى صنعاء وإلى دول الجوار. وهذا يعني أن النظام القادم سيكون بيد قوة جديدة مرفوضة من جنوب اليمن(تعز واب).
أن اليمن قوية بتعددها المذهبي الحالي الذي وجد منذ أكثر من ألف عام وذات منعة من الناحية السياسية ، إلا أن الناس فيها قد يفقدون الثقة تدريجاً بمستقبلها وبقدرتها على البقاء والإستمرار إذا ظلت تسيطر على الجنوب بالقوة ، وستعجز عن توفير الأمن والاستقرار لهم لأنها ستعيش فب حالة طوارئ دائمة لمواجه ثورة جنوبية عارمة لا تستكين ولا تهدئ. ولكن إذا تم التفاوض بين الطرفين ليس فقط من أجل فك الإرتباط ولكن أيضا في كيفية الإستفادة من الثروات في البلدين بما يخدم الشعبين والدولتين. وعلى الشعب اليمني أن يدرك أن الوحدة بين الدولتين التي تمت عام 1990 دون إستفتاء الشعبين هي الوحدة الوحيدة في العالم التي مجرد وجودها مثار للجدل…فالمانيا عندما حاولت احتلال اوروبا فشلت وتقسمت إلى المانيتين …
وأن الوحدة الوهمية الحالية والتي تتغنى بها عصابات صنعاء هي مجرد قلعة تختنق بكل ما تنهبه من الجنوب وبجيشها وأمنها , ومجتمعها يفترسه الذعر ويعاني إعاقة نفسية سببها الصدمة النفسية المستدامة التي سببها الحراك الجنوبي لكل مفاصل الحكم في صنعاء. فصدمة الحراك الجنوبي السلمي أفقدت اليمن توازنه. وبدأ العالم كله ينفر منه , ولم يجد له علاج إلا بتقسيمه إلى أربعة أقاليم … فالتشدّد ببقاء الوحدة بالقوة حتما ستكون السبب في إنهيار اليمن من الداخل.
مؤخرا ظهر قلق كبير من قبل المجتمع الدولي خلال نشوب الأزمة الإقتصادية والحروب في شمال اليمن ، والقلق كله كان يشير إلى مستقبل التعامل مع هذه القوى الجديدة-القديمة ، كذلك، كان استخفاف كبير بشكل «حل الوسط» والمؤقت جداً، لإنهاء تلك الحروب ؛ لأن الانطباع العام كان أن الحل مجرد تأجيل قصير للانفجار القادم.
وأصبحت هناك معرفة مسبقة لدى المجتمع الدولي أنه مهما تم دفع الأزمات الداخلية جانباً، وهي ليست قليلة، فإنها لا بد أن تتفجر من جديد، وفي أمد قريب وليس بعيد.
*قيادي بالحراك الجنوبي