fbpx
يافع قارورة الكون

يافع قارورة الكون / وجدان اليافعي

من الطبيعي أن نحب بلاداً أكثر من غيرها من البلاد,وأن نتغزل بها وفي إيقاعها ونقصر في أخرى مثيلاتها,ونقبّل  ثراها,وفي عالم البشر ليس هناك ماهو أكثر حميمية من علاقة الأمومة,فالأم حضن المرء ورحمه,لذا أدرك البشر منذ زمن بعيد أن مايربط الإنسان بأمه أطلق عليه ,أي على البلد التي يفتح عليها الإنسان عينيه,ويتنسم في المهد عبيرها ((البلد الأم)).

بدون شك بيني وبين(( يافع)) حبل سري يجمعنا لاينقطع,يافع هي الأم التي أرضعتني الصلابة, والتحمل, والصبر اللامتناهي على الكدح,لقد أورثتني بعضاً من حدتها التي أخفاها طوال التمرّس بإتيكيت المدن,لكنها أحياناً تتحول إلى عاصفة غير متوقعة,وذلك بإنها تشب برأسها بين الحين والآخر.

الورد البلدي اليافعي الذي كنت أشمٌّه, وقتهاأنتقل ليافع التي في ذاكرتي, بإقتطافي له كل غروب وذلك من بستان أحد الاصدقاء,كنت أستحلب طعمها_يافع_ في جلسات شوي الذرة في المساءات المقمرّة في قلب أعز الناس والمقربين لي,وأتنسّم عبيرها في سهرات الصيف الممتدة في قارعة الطريق من العشاء إلى الفجر أمام أحدى الدكاكين وكان لاحدى أصدقاء الإعدادية,وتشتعل بها روحي في سهرات قراءة الشعر والقصة حتى الصباح مع صحبة وأساتذة أسكرتهم نشوة اللغة وجمعتهم غواية الأدب.

بدون شك نعلق صور من نحبهم في غرف قلوبنا,ويافع _تلك الريفية الشجية_أحمل صورتها معي في قلبي أينما أذهب,في وسط الريف الإنجليزي ((ريف آخر غير الريف المعني)),كنت أردد راضيآ:أين هذة الخضرة العقيمة من خضرة يافع المثمرة؟

فالريف الإنجليزي _الذي يمتد خضرته بلا نهاية والذي يخلب اللب بلمعان نباتاته ,وجمال هندسته,وإحتضانه لأنواع لاحصر لها من حيوانات الطبيعة_وهو في النهاية ريف عقيم.

ليس أكثر إيلامآ للبشر من وجع البلاد,وفي غربتي أحنّ إلى(( يافع)),حيث الخضرة عميقة,والهواء بلا دخان ,والصمت غير منتهك بضجيج التحديث الزائف الذي يملأ سماوات المدن.فيما مضى اعتدت ما أن أقترب وأفتح النافذة على آخرها,أغمض عينّي ,واعبٌّ من هواء لم تمسسه يد التلوث بسوء,أتنفس بعمق,تنفٌّس غواص يدرك أن القاع الذي يعتزم الوصول إليه بعيد,وأحلم بالتحليق في الأفق.

أتذكر مشهد تحليق بطل فيلم ((ثمانية ونصف)) لفلليني,الذي حلّق في السماء بعد أن ايأسه زحام الأرض وضيق مسالكها,وأشتاق للإنعتاق,أود أن أحلّق مثله في سماء ((يافع)).

البلاد بشر,ويافع أمي التي أخاف أن ينضب بئر الشوق لها ,أو أن تتلبّد سماء علاقتي بها بدخان الخوف أو غمام أليأس,أتمنى أن أظل دومآ مشدودآ إلى يافع التي في ذاكرتي ,ومتشبثاً بيافع التي في أحلامي, وأن تظل كعهدي فيها قلباً وسيعاً.