fbpx
وحتى “الجنوب”، عزيزي حبيب، يمكن أن يكون اسماً لدولةٍ؛ إن أراد “الجنوبيون” ذلك!

يقولُ علماء اللغة: المعرفةُ اسمٌ دلَّ على مُعّينٍ. كعُمرَ ودِمَشقَ وأنتَ. والنكرةُ اسمٌ دلَّ على غير مُعّينٍ كرجلٍ وكتابٍ ومدينةٍ. والمعارفُ سبعةُ أَنواعٍ الضميرُ والعَلمُ واسمُ الإشارة والاسمُ الموصولُ والاسمُ المقترنُ بِـ (أل) والمضافُ إلى معرفة والمنادى المقصودُ بالنداءِ.

والمقترنُ بـ(ألْ) اسمٌ سبقتهُ (ألْ) فأفادتهُ التعريفَ، فصارَ معرفةً بعد أن كان نكرةً. كالرجل والكتاب والفرَس.

وهي، إما أن تكون لتعريفِ الجنس، وتسمى الجنسيَّةَ. وإما لتعريفِ حصّةٍ معهودةٍ منهُ، ويُقال لها العَهْديّةُ. فأما “العهدية”، وهي موضوعنا في هذا المقال، فهي التي تدخل على النّكِرة فتفيدها درجة من التعريف تجعل مدلولها فردًا معينًا أو شيئاً معيناً بعد أن كان مبهمًا شائعًا. وسبب هذا التعريف والتعيين يرجع لواحدٍ مما يأتي:

1- قد يكون السبب في تعريف النكرة المقترنة بأل العهدية هو أن “أل” تحدد المراد من تلك النكرة، وتحصره في فرد معين تحديدًا أساسه علم سابق في زمن انتهى قبل الكلام، ومعرفة قديمة في عهد مضى قبل النطق، وليس أساسه ألفاظًا مذكورة في الكلام الحالي. وذلك العلم السابق ترمز إليه “أل” العهدية وتدل عليه، وكأنها عنوانه. مثال ذلك؛ أن يسأل طالب زميله: ما أخبار الكلية؟ هل كتبت المحاضرة؟ أذاهب إلى البيت؟ فلا شك أنه يسأل عن كلية معهودة لهما من قبل، وعن محاضرة وبيت معهودين لهما كذلك. ولا شيء من ألفاظ السؤال الحالية تشير إلى المراد إلا: “أل”؛ فإنها هي التي توجه الذهن إلى المطلوب. وهذا هو ما يسمى: “العهد الذهني” أو “العهد العِلمي”.

2- وقد يكون السبب في تعريف تلك النكرة حصول مدلولها وتحققه في وقت الكلام، بأن يتبدئ الكلام خلال وقوع المدلول وفى أثنائه؛ كأن تقول: “اليوم حضر والدي”. “يبدأ عملي الساعة”، “البرد شديد الليلة”… تريد من “اليوم” و”الساعة” و”الليلة”؛ ما يشمل الوقت الحاضر الذي أنت فيه خلال الكلام. ومثل ذلك: أن ترى الصائد يحمل بندقيته فتقول له: الطائر. أي: أصبْ الطائر الحاضر وقت الكلام. وأن ترى كاتبًا يحمل بين أصابعه قلمًا فتقول له: الورقة. أي: خذ الورقة الحاضرة الآن. وهذا هو”العهد الحضوري”.

فأنواع العهد ثلاثة: “ذِكْرِيّ”، و”ذهنيّ/علميّ”، و”حضوري”. وللثلاثة رمز مشترك يدخل على كل نوع منها هو: “أل”. وتسمى: “أل” التي للعهد، أو: “أل العهدية”. فإذا دخلت على النكرة جعلتها تدل على شيءٍ معين دلالة تقترب من دلالة العلم الشخصي. ولهذا كانت “أل” العهدية تفيد النكرة درجة من التعريف تُقَربها من درجة العلم[1].
هذا ما يقوله علماء اللغة، أما العزيز حبيب فلديه نوع واحد من المعرفة، وهو المضافُ مُعرّف!.

وأنا أتفحص في الموسوعة، وجدتُ العجب العجاب في معاني أسماء البلدان، بعضها قد أشار إليها المعلقون على مقال العزيز حبيب في موقع عدن الغد “الجنوب أصغر من أن يكون أسماً لدولة، عزيزي أمين” ( هناك تعليقات موضوعية قد اختصرت كثيراً مما يمكن أن أقوله هنا، مع اعتراضي الشديد على أي تهجم من أي نوعٍ كان، فمهما اختلفنا مع العزيز حبيب، سنبقى نكن له كل الاحترام والتقدير). مما ذكره المعلقون “جنوب أفريقيا” و”الأمارات” (في الاستخدام غير الرسمي للثانية)، فالأولى لا تفيد بقول القائل “أنا ذاهبٌ إلى جنوب أفريقيا” يعني بأنه سيذهبُ إلى عشرين أو ثلاثين دولة تقع في جنوب قارة أفريقيا وإلا لاعتبره الناس معتوه كبير، ولكنه سيذهب إلى دولة اسمها “جنوب أفريقيا”، وكذلك الحال بالنسبة لـ”الأمارات”، فالـ “العهد الذهني” أو “العهد العِلمي” كما يسميه علماء اللغة يوجه الذهن إلى شيء معلوم الدلالة.

مما وجدتُ في الموسوعة أيضاً، وربما قد يجد القارئ فرصةً لإثراء بنك معلوماته بمعاني أسماء البلدان أن منغوليا: تعني الحيوانات الخمسة؛ وسيسأل البعض أيش من حيوانات خمسة؟ وقس على ذلك، البرتغال: بلاد المرافئ، هولندا الأرض المنخفضة (وكم ياما أراضي منخفضة في العالم)، النرويج: أرض الشمال، ألمانيا/دوتش لاند: أرض الرجال، أيسلاندا: أرض الجليد، مقدونيا: البلاد العالية، قبرص: أرض النحاس، الأرجنتين: أرض الفضة، مونتيغرو: الجبل الأسود، البوسنة: النهر، ليبيا: أرض السمر، السودان: نسبة إلى سواد البشرة، الجزائر: البلاد الواسعة، فنلندا: أرض الخير، غرينلاندا: الأرض الخضراء، هندوراس: بلاد الأعماق، بورتوريكو: الميناء الغني، هاييتي: الميناء الجميل، تشيلي: البلد الأبيض، الحبشة: الوجه المحترق، زمبابوي: أرض القلعة، بوركينا فاسو: الرجال النزهاء، الصومال: الزمال أي الشعب الغني بالمواشي، مالي: المكان الذي يعيش فيه الملك..
أما أكثر الأسماء غرابة، فهو أسم دولة غواتيمالا: بلاد الطيور التي تأكل الأفاعي!!!
هذه الأسماءُ العجيبةُ الغريبةُ تحوّلت بفعل “العهَد الذِّهني” من أسماء نَكِرة إلى أسماءِ علم، وإلا بالفعل فحين تقول أنا ذاهبٌ إلى الحيوانات الخمسة، أو ذاهبٌ إلى بلادِ الطيور التي تأكُلُ الأفاعي قد يعتقد البعض أنك بحاجةٍ إلى تعهد طبيبٍ نفسي

كان يقول عابد الجابري “لا مشاحة في المصطلحات”، وأنا أقول لا مشاحة في الأسماء.
وأسمح لي هنا بأن أستعير تعبيرك “بديهية صارخة” لأقول لك: ما هو بديهي صارخ هو أن “الجنوبيين”، الناس هنا، على هذه الأرض ما زالوا في طورٍ نضاليٍّ مفتوح حتى يستعيدوا دولتهم المحتلة، ولطالما كانوا كذلك، فلهم الحق في انتقاء أي من الأسماء والصفات في هذه المرحلة المؤقتة حتى وإن كانت على نحوٍ ضمنيٍّ مضمرٍ، و فيما بعد، سوف يجدون متسعاً لاختيار الهدف والأسماء والصفات، هذا ما هو بديهي صارخ لرجل يعتنق الأبجديات الأولى من مبادئ وقيم الحرية والديمقراطية!

وليسوا ملزمين بتسمية بلادهم “جنوب اليمن” أو “اليمن الجنوبي”، فربما قد يسمونها مثلاً “غرب عُمان”، “جنوب الربع الخالي”، “شِمال بحر العرب”، “غرب أسيا”، “غرب حضرموت”، في حال أصبحت حضرموت دولة مستقلة، “بلاد الغربان”، فحديقة الكمسري، حسب بعض المعلومات تصنف كأكبر محمية للغربان في العالم…إلخ
يجوز لهم أن يختاروا ما يشاءون عزيزي، اسم اليمن ليس قدراً عليهم، ولا يجب أن يكون كذلك، وهم لا يكرهونه ولا يحبونه، ولن يقولوا مثلاً أنه اسمٌ تافهٌ ولن ينبغي أن يكون مُضافاً إلى اسم دولتهم، هم يحترمون كل من ينتسب إليه، وربما قد لا يهتموا بالقول بتفاهته لسببٍ بسيط شرحه درويش باستفاضة شديدة:

لا أحبُّكَ، لا أكرهُكْ
قال مُعْتِقِلٌ للمحقق: قلبي مليءٌ بما ليس يعنيك
قلبي يفيضُ برائحةِ المَرْيَمية
قلبي بريءٌ مضيءٌ مليءٌ،
ولا وقتَ في القلبِ للامتحان
بلى، لا أُحبُّكَ
من أنتَ حتَّى اُُحبُّك؟
هل أنت بعضُ أنايَ، وموعد شاي
وبُحةُ ناي، وأغنيةٌ كي أُحبُّكَ؟
لكنني أكرهُ الاعتقالَ ولا أكرهُكْ
هكذا قال مُعْتَقلٌ للمحقق: عاطفتي لا تَخُصُكَ
عاطفتي هي ليلي الخُصُوصيُّ..
ليلي الذي يتحرَّكُ بين الوسائد حُراً من الوزن والقافية!

(لقد دَوشَت القراء بالاقتناصات الدرويشية، فليعذرونني، فأنا مولعٌ بشعره كثيراً)

وإن احتاج الاسم الجديد إلى مصححٍ لغويًّ، أو حتى مهندسٍ كهربائي، معملي فيزيائي/ كيميائي، يمكن عرض الأمر عليه دون حرج ولنفترض أنه مثلاً مسودة العمل الروائي الأول لكاتبٍ مبتدئ. اعتقد أن المسألة بسيطة جداً من هذه الناحية، والناس ليس لديهم مشكلة أبداً في ذلك، المهم الآن كيف يمكن لهم أن يتحرروا من هذا الاحتلال الهمجي القبلي البربري الأكثر تخلفاً وعفناً على وجه الأرض. وكيف لنا، كأشخاصٍ نزعمُ اعتناقنا لقيم ومبادئ الحرية، أن لا نكن انتقائيين للغاية على الطريقة الكولونيالية في نسختها الرديئة جداً، فنقف بجانب هؤلاء الناس البسطاء الذين يقتلون كل يوم دفاعاً عن كرامتهم وحقهم في الوجود والعيش بحريةٍ، هم بحاجة إلى أن نشدُ من أسرهم، فهم يستحقون منّا أكثر من ذلك، وهم الحقيقةُ الوحيدةُ، وما عداها فوَهَم محض.
أما موميات “الجنوب” فليس هناك ما يزعج في الحقيقة، ليس لأنها أصبحت صالحةً تماماً، فأولاً نحن مشغولان الآن بما هو أهم، وثانياً هي قد أصبحت في أرذل العمر كأوراقِ خريفٍ عابثٍ في انتظار أبسط هبة ريحٍ شعبيةٍ كانت أم طبيعةٍ حتى تسقط الواحدة تلو الأخرى، وما يطمئننا أكثر، أنها لا تنتمي إلى بُنى ذات “تضامن ميكانيكي” كما أصطلح عليها عالم الاجتماع دوركايم كحال البُنى التقليدية في الشمال مما قد تُشكّل صُداعاً أزلياً سيجعل حياتنا أشبه بمسلسلٍ مكسيكي كلما فِتْنا كبوةٍ، وَقَعْنا في كبوةٍ أخرى أدهى وأمر

يُقال عادةٌ أن كل مفهوم هو كيان تاريخي ولد وتبلور ونما وتطور وازدهر في سياق اجتماعي ثقافي متعين، ويُقال أيضاً أن كل مفهوم ينطوي بالضرورة في صيغته البنيوية على: تاريخي ومنطقي، محسوس ومجرد، مادي ومعنوي، واقعي ورمزي، دال ومدلول، أيدلوجي وابستمولوجي.
عنوان مقالك فقط اشتمل على ثلاثة مفاهيم “الجنوب”، “أسم”، “دولة”، فهل يُعقل في نقاش يفترض فيه أن يكون معرفياً أن يضمحل لتصبح مهمته الوحيدة التفتيش في سراديب النحو والصرف العتيقة عن أل التجنيس وأل التعريف، ونتغافل عمّا هو جوهري وأكثر أهمية؟!..
في مقالي السابق، حاولتُ توجيه دفة النقاش نحو مسارِ منهجي يستقصي الكيفية التي تنشأ بها المفاهيم، والسياقات التي يمكن أن توظف بها هذه المفاهيم فتتحول إلى مشاريع تصارعية بين القوى الاجتماعية. وكان غرضي من ذلك السعي نحو فضح وتهشيم أي مقولات أو تصورات أو إستراتيجيات للهيمنة قد تستبطن المفاهيم التي صارت بحكم الأمر الواقع المفروض من قِبل القوي والمهيمن في خانة المطلق والخالد والمقدس، فتحول الإنسان إلى قطيع من العبيد في حظيرتها، لا تقوم له قائمة أو قيمة، وهذا ما يفترضه إدوارد سعيد كوظيفة المثقف النقدي الأساسية. فإن تسببتْ الاسترشادات الما بعد حداثية (لنيتشه وبورديو..) بأي “ربشة” لك عزيزي حبيب، فأنا أعتذر بشدة عن ذلك

وسأقولها بكل أسفٍ عزيزي حبيب، لم يكن هناك ما يستحق الرد، فطريقة داحس والغبراء لا تستهويني مطلقاً بالدخول في أي نقاشات من أي نوعٍ كانت، نريد أن نصل من خلال نقاشنا هذا وكل نقاشاتنا إلى تقويم الفهم لا إلى افتعال “خناقات” عبثية..

في المرة السابقة، كنتُ قد سألتك ثلاثة أسئلة جوهرية، لم ترد على أيٍّّ منها. فإذا كنتَ سعيداً بمواصلة نقاشٍ كهذا، فلك مُطلق الحرية، وسأحترم طريقتك في التعبير عن أفكارك وتصوراتك مهما اختلفت معها، أما أنا فاعذرني إن لم أعد مرة أخرى للرد!

وكان يمكن أن لا أرد هنا، ولكنني عدتُ فقط لكوني أكنُ للعزيز حبيب تقديراً خاصاً.. مودتي الثانية.
وكل عام والجميع بخير، وسنةٌ مملؤةٌ بالازدهارات والتفوق وتحقيق الأماني والأحلام.

[1] هناك نوع ثالث من “أل العهدية”، أي ما يُسمى “بالعهد الذِّكْري”، وقد اقتضى الحال أن أسقطه هنا في الهامش، وهو كالتالي: أن النكرة تذكر في الكلام مرتين بلفظ واحد، تكون في الأول مجردة من “أل” العهدية، وفي الثانية مقرونة “بأل” العهدية التي تربط بين النكرتين، وتحدد المراد من الثانية: بأن تحصره في فرد واحد هو الذي تدل عليه النكرة الأولى. نحو: نزل مطرٌ؛ فأنعش المطر زروعنا. أقبْلت سيارة، فركبتُ السيارة. وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} .

فكل كلمة من الثلاث: “مطر -سيارة- رسول” وأشباهها قد ذكرت مرتين؛ أولاهما بغير “أل” فبقيت على تنكيرها، وثانيتهما مقرونة بـ(أل) العهدية التي وظيفتها الربط بين النكرتين ربطًا معنويًّا يجعل معنى الثانية فردًا محدودًا محصورًا فيما دخلت عليه وحده، والذي معناه ومدلوله هو النكرة السابقة ذاتها. وهذا التحديد والحصر هو الذي جعل الثانية معرفة؛ لأنها صارت معهودة «عهدًا ذِكْريًّا»، أي: معلومة المراد والدلالة، بسبب ذكر لفظها في الكلام السابق ذِكرًا أدى إلى تعيين الغرض وتحديده بعد ذلك، وأن المراد في الثانية شيءٌ معيّنٌ؛ هو السابق.