fbpx
استقلال أم جلاء؟؟

 

كتب – د. عيدروس نصر ناصر النقيب.
منذ ١٩٩٤م غدا هناك تسميتان رسميتان لذكرى الثلاثين من نوفمبر صارتا تترددان كلما أطلت علينا الذكرى بما تبقى لها من معاني جميلة في ذاكرة الجنوبيين وما تغيَّب أو غُيِّب ودمِّر عنوةً من منجزاتها على أيدي الأشقاء المنتصرين في العام 1994م، فهناك تسمية  جنوبية درج عليها الجنوبيون منذ العام ١٩٦٧م وهو تسمية المناسبة بـ”عيد الاستقلال الوطني”، وهكذا ظلت التسمية منذ ذلك التاريخ وكانت دوماً على هذا النحو حتى في برقيات التهاني التي يبعثها الاشقاء والاصدقاء للقيادة الجنوبية على مدى ٢٣ عام واستمرت كذلك حتى ١٩٩٤م  رغم اختلاف متلقي التهاني وتغيير التسمية إلى “ذكرى استقلال الشطر الجنوبي من الوطن”.
التسمية الثانية “عيد الجلاء” ويستخدمها الاشقاء المنتصرون في حرب 1994م على الجنوب، وهم الذين لم يساهم أحدٌ منهم بطلقة رصاص واحدة في صناعة المناسبة ولا حتى بمظاهرة أو مسيرة أو مقالة في صحيفة تروج للمناسبة، واقصد هنا القيادة السياسية التي صادرت كل شيء في الجنوب حتى مناسباته الوطنية.
لماذا يستبدلون الاستقلال بالجلاء؟
إنه ليس خطأً لغوياً ولا ابتكاراً قاموسياً جديداً في لغة العرب العريقة والثرية!
لا! إنه تحايل غبي ومكشوف، يحاول أصحابه ان يحذفوا من التاريخ الجنوبي قصة نضال  طويلة لم تقتصر على فترة الثورة الاكتوبرية المسلحة التي اجبرت المستعمر على الرحيل بعد أربع سنوات من اندلاعها، بل وكل تاريخ المقاومة والتمردات والانتفاضات الرافضة للوجود الاستعماري والمطالبة بالحرية والاستقلال والتي يمتد عمر بعضها إلى أكثر من قرن ما قبل ثورة ١٤ اوكتوبر المجيدة.
الاستقلال يعني خروج المستعمر بالرضى او بالإكراه وتسليم زمام الامور للشعب ومن يمثله،  وإعلان دولة جديدة معنية بأخذ الاستقلال وبناء النظام الوطني الجديد، أما الجلاء فهو يعني خروج القوات الأجنبية طوعاً من جزء من الأراضي المحتلة أو كلها، وليس كل جلاء يكون ثمرة نضال ومقاومة وثورة مسلحة واستشهاد وتضحيات.
كل استقلال يشمل “جلاء”  لقوات الاحتلال، لكن ليس كل جلاء استقلال وقيام دولة جديدة.
وباختصار فإن مروجي نظرية “الجلاء” هم يكرسون من خلال هذا المفهوم المغشوش نظرية “الاصل والفرع” الزائفة التي تستهدف إنكار وجود شعب وهوية وثقافة ودولة ونظام وقانون وتاريخ في الجنوب، وهم بهذا يقدمون خدمة مجانية للمستعمر بصورة غير مباشرة من خلال تصويره على إنه تنازل طوعاً عن وجوده على هذه الأرض وقرر سحب قواته ودياً لصالح حرية الشعب الجنوبي.
*    *       *
شكرا للدكتور محمود السالمي المتخصص في التاريخ الحديث على منشوره المعنون بـ” لماذا انهار اتحاد الجنوب العربي”، والذي  كشف فيه مجموعة من الحقائق الهامة، المتعلقة بتحقيق الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م.
ولست بصد الترويج للمنشور، الذي كتبه مؤرخ متخصص بلغة محايدة جداً بعيداً عن التحيز أو الدعاية الإعلامية أو اللغة الشعبوية ولا بصدد كشف تفاصيله المهمة ، لكن أهم الحقائق التي كشفها الدكتور السالمي أن بريطانيا عندما قررت الرحيل في مطلع العام العام 1968، لم تفعل ذلك لأنها كانت تحب الشعب الجنوبي أو حتى سلاطين وحكام إماراته ومشيخاته، ولكن لأنها لم تعد تحتمل الكلفة العالية لوجودها في هذا البلد الرافض أهله لوجودها،
والحقيقة الثانية التي كشفها المنشور هي إن حكومة وحكام الاتحاد كشفوا عن عزلتهم عن الشعب ورفضوا القبول بتسلم الحكم من بريطانيا بعد انسحابها واشترطوا بقاء اتفاقية حماية (أي استعمار جديد ملطف) وهذا ما رفضته السلطات البريطانية نفسها.
وأهم ما لخصه الدكتور العزيز في منشوره هو إن الرهان على أعداء الشعوب والتحالف معهم وتسخير الوطن وثرواته لخدمتهم مقابل الحماية من الشعب هو رهان الخائبين المرتعدين من أرادة الشعوب وإن مصير هؤلاء إلى خارج التاريخ، مع التقدير للأدوار الوطنية لبعض الحكام والسلاطين والمشائخ الذي قاوموا الاستعمار ورفضوا التعاقد معه أو الارتباط به، وهؤلاء لم يكونوا أصلا من بين مكونات مؤسسات اتحاد الجنوب العربي.
وهناك حقائق عديدة سيكتشفها القارئ الحصيف والمنصف من قراءته التاريخ بعيداً عن ثقافة التلقين والاستظهار التي درج عليها الكثير من ناقلي التاريخ.