fbpx
عَبَرَاتْ (13)

الثّوانِي الأخيرةُ بَعد منتصفِ الليْل !

الساعةُ تقتربُ من الثانيةِ بعد منتصفِ الليل .. السكونُ يجتاحُ منزلَها الصغير ، ضوءٌ خافت جداً ينسلُّ من غرفِتها .. وهي تترقّبُ بلَهفَةٍ حارقةٍ وقعَ أصواتِ أصابعهِ وهو يطرقُ نافذةَ غرفتِها المطلةِ على فناءٍ خلَفيٍ يخلُو من العيون.

الثواني كأنَها أُصيبَتْ بشَلل .. لا تكاد تمضي .. ونبضاتُ قلبِها تخفقُ بشدة .. كان بإمكانها الاستماع بوضوحٍ تامٍ إليها دون الحاجة لوضعِ يدها الناعمة على زاويتها الملتهبة في أقصى الشَمال.

يا الله .. ما هذا الشعور الغريب !! كما لو أنها لأوّلِ مرة تلتقيه .. كانتْ جريئةً في أعماقها كما لَو أنها ليست هي .. أقسمَتْ أَن تُفصِحَ لهُ عن كلِّ ما بداخلِها من حبٍ ومشاعرٍ وجنونٍ يحترق في نشوةِ صمتها الذي امتدَّ لأشهر .. لم تَعُدْ تلكَ الفتاةِ المترددة .. لَقد تعلّمَت في هذه الدقائق ما لم تتعلمه طيلة ما مضى من وقتِها .. أدركت أنَّ القراراتِ المصيريةِ لا يُمكِن اتخاذَها بترددٍ وتأخيرٍ ، فقد لا تمنحُها الحياةُ فرصةً أخرى للتعبير عن ما يثورُ في أعماقِها.!

بدأتْ الثواني الأخيرةُ المشارفةُ على تمامِ الساعةِ الثانية تمضي بسرعةٍ جنونيةٍ ، كما لَو أنّها أطلقتْ العنانَ لنفسِها بالتحليق ، وكما لَو أنّها تعافَتْ من عاهةٍ صحيةٍ مزمنةٍ.

نعم .. الآن سيأتي .. الفرحةُ ضاقت بأحشائِها ، وتمددتْ عيناها تُراقبُ النافذةَ بشغفٍ فضيعٍ ، لقد أدمنت عيناها نافذتَها بِعشق ، كما لَو أنّها “قصر الاليزيه” أو حدائق بابل المعلقة أو متنزهاتُ “زيورخ” الشهيرة.

أخذتْ قليلاً من العِطر.. نثرتهُ للمرةِ العاشرة على حنايا جسدها المتلهِّف .. لم تشأْ أنْ تَبذخَ ، لربما تُوقظُ ذراتُهُ المتطايرةُ والدتَها الحادة في الشّم .. عادت مرةً أخرى إلى النافذة .. احتضنتْ أعمدةَ ستارتِها البيضاءَ بشوق .. كررت ذلكَ مرة أخرى .. مرتين .. أحنتْ الستارةَ تُراقبُه عن كثَب .. لا أحد يبدو قريباً .. لربّما أخطأ في المكان .. لا لا .. ربما طرأ أمرٌ ما وهو قادمٌ إلي ، أو ربما نسي ساعة يده ،،، أسئلةٌ كثيرةٌ بدأتْ تتخافتُ عليها !!

عادت الثواني تتعثرُ مرةً أخرى .. وَقْعُ أنفاسها بدأ يخبو .. ورائحةُ عطرها تمتزجُ بدموع حارة منهكة .. ابتسامتُها غارتْ في لجةِ حزنٍ عميق لم تُدرك تفاصيلُه بعد .

ربّما لم يأتي .. ربّما لنْ يأتي .. أخذت تُتمتمُ كما لو أنّها طفلةٌ فَقدتْ لُعبَتَها العتيقة ، وأنشدت أبيات شعرِها الأولى :

أَلا لَيتَ لَمْ أَهوَاكَ إِلَّا أَمَانِيَا .. وَلَيتَ الّذِي بَيني وَبينُك فَانِيا
وَليتَ عُيُوني لَمْ تَرَ مِنكَ قُبْلَةً .. وَليتَ فُؤادي مَاتَ قَبلَ أَنْ تَرَانِيا
وَليتَني لَمْ أَكبُتْ مِنَ الشَّوقِ غَصَةً .. وَليتَني بَادَلْتُكَ مَا قُلتَهُ لِيا
أَلَا وَالّذِي قَلبي مِنَ الماءِ صَاغَهُ .. بِأَنّي أُحِبُّكَ في نّهَارِيْ وَلَيلِيا
وَأنّي مُتَيَّمَةٌ فِيكَ وَإِنْ يَمُت .. حَنِينُكَ لِيْ تّسْمُو إِلىَ اللهِ رُوحِيَا

.. يتبع .. بقية القصة في حلقة أخرى من “عبراتي”..