fbpx
إضاءة أولى: المرحلة القادمة

بقلم | امين اليافعي

القولُ بإن المرحلة التي يُريد أن يُمهِّد لها مجلس الأمن، و”مجلس الأمن” هو المُصطلح التقني للطريقة التي  يحضر من خلالها الكبار في العادة لتعزيز المصالح والنفوذ، القول بإن هذه المرحلة ستكون فارقة، بل وفارقة للغاية، وعلى الجنوب بوجهٍ خاصٍ، لا تحتاج سوى إلى إجهادٍ يسير للذهن في ملامح الصورة التي يجري رسمها بعناية فائقة من خِلال الفاعلين الدوليين للتعرف على معالمها وخطوطها وألوانها، فكل التفاصيل تبدو بارزةٌ بفجاجةٍ، أما إيحاءاتها ودلالاتها فلم يكن بمقدور الغموض أن يحيلهما إلى متاهةٍ عسيرةٍ على الفهم تدفع باللجوء إلى اختلاق ضروبٍ من التأويلات لاستكناه السيناريوهات القادمة.. فكل شيءٍ واضحٌ ههُنا؛ ويبقى “مجلس الأمن” ذو القوة والسلطان!!

 

في الماضي، عَمِدت القوى التقليدية المُهيمنة، في الشمال طبعاً، ومنذ اليوم الأول لاحتلالها الجنوب، إلى تأسيس شبكاتٍ متعددةٍ وطوابير طويلةٍ من الوكلاء التابعين والمُخلصين، وتحت هيئاتٍ وأفكارٍ ويافطاتٍ شتى؛ دينية مُتشددة بشقيها الجهادي والدعوي ومدنية وقبلية. ولأن الوكلاء الجنوبيين كانوا في الأساس “وكلاء الوكلاء”، إذ أن القوى المُهيمنة نفسها كانت عبارة عن وكلاءٍ، ولكن وكلاءٌ من نوعٍ خاصٍ جداً، فاستطاعوا من خلال “مرونتهم الفائقة”، و”فذاذتهم” التي لا تُقهر في هذا الجانب، أن يحوزوا على أي طرفٍ دوليٍّ رَشَحَت لديه مجرد بوادرٌ أوليّةٌ للرغبة في إيجاد موطئ قدم على هذه المساحات السائبة منذ الأزل، وحتى أولئك الذي كانت تعوزهم الرغبة، استطاعوا أن يحضروهم بمهارةٍ إلى المخدع المحلي… فجمعوا بين أكثر من طرفٍ دوليٍّ، وأكثر من نقيضٍ، في نفس الوقت أو على مراحلٍ مُتعاقبةٍ.

 

لذلك فقد ظل وكلاء الوكلاء ضِعافاً هامشيين، لم يكن لهم من الأمر شيئاً، بل وربما كانوا كذبابٍ على المائدة. وتِلك إرادةٌ قاطعةً لوكلائهم الرئيسيين والرسميين في صنعاء لإبقائهم على هذه الحالة من الهزالة والخنوع. كانت الإستراتيجية الاحتلالية الاجتثاثيّة الصرفةٍ التي أداروا من خلالها الجنوب لا تسمح بقيام أي عوامل للقوة والاقتدار، فقد دمروا ومحقوا كل ما هو فاعلٌ وحيويٌّ في الجنوب، دمّروا جميع المؤسسات الحكومية والمدنية والأهلية؛ وما جامعة عدن أحد أعرق الجامعات العربية ببعيدة، وأرجو أن تقارنوها بجامعاتهم التي لم تبلغ عُمْر بعضها البضع سنواتٍ لتجدوا كما الفرق هائلاً وفظيعاً.. لم يسمحوا بأي فاعلية جنوبيّة حتى لأولئك الذي أدمنوا على أن يقتاتوا من فتاتهم، وسِلال زبالتهم، ويقبّلوا مواطئ أقدامهم ليل نهار..  فكل عاملٍ يمنح القوة هو مصدر تهديد مستقبلي وفق الإستراتيجية الاحتلالية المُعدة بعنايةٍ.

 

وتلك مرحلةٌ قد خلت، أو هي في طريقها إلى الخلو. فصنعاء التي أوت إلى سريرها كل نقيضٍ من الأجانب والغرباء والعابرين، وأرادت من ذلك أن تحوز على كل حُسنٍ، وكل فنٍ.. قد أفرطت في جرعات التهجين لدرجة إنها لم تَعُد تدري كم أنجبت من أبناءٍ، شرعيين وغير شرعيين..وحتى القدرة على التمييز بين أبناءها الشرعيين وأبناءها غير الشرعيين، باتت في وضعيةٍ لا تؤهلها لمثل تفحصٍ عسيرٍ كهذا.. فما عادت تعرِف للأبناء آباء، ولا الآباء قدروا أن يتعرفوا على أبنائهم، فلكل أبنٍ أكثر من أب وأكثر من كفيل وأكثر من مُعيل.. اختلطت الألوان والأشكال والأجناس والسلالات، واختلطت كل المتناقضات والأضداد، وتلك متاهةٌ ستؤرقها كثيراً،و ستكلفها كثيراً، كثيراً جداً.

 

 وليس الآخرون بمنأى عن دفع التكلفة ثمناً لنزوات صنعاء المُفرطة بالمناسبة، فلكل قسمته التي تنتظره على أحر من الجمر!

 

أما في الجنوب القادم، الجنوب الجديد المفتوح على كافة الاحتمالات، فبعض المُعادلات سيُعاد صياغتها بكل تأكيدٍ؛ من ذلك مثلاً مُعادلة “الوكلاء” البالغة الأهمية. ففي القريب، سيصبح لدينا وكلاءٌ رسميين في الجنوب، وكلاءٌ لن يمروا إطلاقاً عبر أقبية ومراحيض “باب اليمن” بل سيمرون إلى اللاعبين الكبار مباشرة. وهذه المرة، يجب أن يصبحوا أقوياء، وتكون لديهم قدراتٌ وإمكانياتٌ هائلة تجعل تحركهم في كل اتجاه بمنتهى السهولة واليُسر. وعن طريق ذلك، ستظهر لدينا مشاريعٌ وأفكارٌ وأناسٌ ما كانت على البال ولا على الخاطر. وما على الجنوب سوى أن يبتلع كل ما سيُقدّم له عبر هؤلاء الوكلاء الجُدد من طبخاتٍ وأطباقٍ يتم تحضيرها على قدمٍ وساقٍ، خصوصاً في ظل مشاريع ترفع الشعار “الوطني” الجنوبي المُقدّس وهي تعيش في حالة شتات وتبعثر وارتباك وتشوش وهذيان، وتتخبط كغريقٍ وجد نفسه في لجة بحرٍ متلاطمٍ؛ فلا هو بسباحٍ ماهرٍ، ولا استطاع الاستعانة بأقرانه الجنوبيين ممن يُشاركونه الهم والغرق؛ فلكل منهم شروطه المُسبقة قبل أن يمد يد العون، وكل منهم يريد أن يجر صاحبه إلى النقطة التي يغرق فيها هو باعتبارها نقطة تمنح فرصة أكثر للنجاة من النقاط الأخرى مع إنه هو نفسه ليس في صدد النجاة بل في صدد الغرق! ولا حد منهم زود نفسه باحتياطاتٍ بسيطةٍ يُمكن أن تمنحه أفضلية عن الآخرين لكسب مزيداً من الوقت!..

 

من هذه الزاوية، كنتُ قد شرعتُ في نقد حالة التخبط وحالة التبعثر وحالة الهذيان؛ وهي مهمة لا بُد وأن يُخصص لها حيزاً في قادم الأيام. فالحالة المُزرية التي نعيشها والتي يُقابلها حالة غريبة من التبلد والذهان على المستوى السياسي والفكري كانت بحاجةٍ مُلحةٍ إلى إعمال النقد مع قليلٍ أو كثيرٍ، حسب الحاجة، من القسوة والشدِّة والاستفزاز. ولهذا كنتُ منهمكاً في التفكير بالهوة السحيقة بين الحالتين، وكيفية ردمها، أكثر مما كنت أفكر ـ خصوصاً وعلي مسئوليّةٍ من نوعٍ ما ـ على طريقة القول المأثور «ما كل رأي يُجهر به، ولا كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يصلح للقول يصلح أن يقال عند كل أحد، أو في كل مكان أو مناسبة»، كما ذكرني إياها البعض، عاتباً بالطبع. وربما فكرتُ بإن الواقع الذي يختل في تساوقه هو بحاجة في بعض المرات إلى اختلالٍ على طريقته، اختلالٍ يتوزع بين “جنون الحكمة” و”حكمة الجنون”!

 

على العموم، النقاش أثار نقاشات، والنقاشات ستجر أخرى، وهكذا.. وهي ظاهرةٌ صحيّةٌ تماماً، خصوصاً عندما تتسمُ بالجدّيّة والشفافية والمسئوليّة. والمبادرة إلى التفاعل معها في السياق الجنوبي- الجنوبي يمنحُ، بلا شكٍ، أفضليةً لأولئك المُبادرين/المنخرطين عن أولئك الذي يقفون على الحافة، وعلى طريقة “أهل الأعراف”.

 

ففي مثل هذه الظروف الحرجة والاستثنائية، من الضروري أن نؤسَّس لمجالٍ تواصليٍّ ولو في حدوده الدنيا يمكن من خلاله الوصول إلى تفاهمات بين الجنوبيين، أو حتى بين جزءٍ منهم، وهو مجالٌ لم يؤسس بعد وللأسف الشديد، ولن يؤسَّس إلا من خلال نقاشاتٍ موضوعيّةٍ وجادةٍ وشفافةٍ وواضحةٍ ومفتوحةٍ حول كل القضايا الشائكة، وتضع النقاط على الحروف،  دون أن تغلِبها “مناحرة” الشعارات، أو تسطو عليها رغبة البعض في “التلصص” من بعيد على مدى الصلاحية في نوايا الآخرين حيال هذا الطرح أو ذاك دون أن تكون لديه الجرأة اللازمة لطرح ذلك صراحة، وتجده بعد فترةٍ يُعنِف موقفك حيال قضايا شائكةٍ إلى أبعد الحدود ولم يَسْبِق أن تناقشتما حولها على الإطلاق؛ وهو تصرفٌ لا ينمُ عن رقيٍّ على أي حال!

 

هي إذن “إضاءات”..ستحاول أن تتخفف من التجريد، وطنابة المُصطلحات، وتطرق الأمور والمسائل بلغة السياسة العاديّة. فنحنُ بحاجةٍ إلى أن يستمع بعضنا بعضاً مباشرة ودون وساطة، بحاجةٍ إلى أن نفهم بعضنا بعضاً بوضوحٍ ودون رُكام الغموض أو فِخاخ الالتباسات أو التلصص على النوايا من خلف الستار!