fbpx
السابع من يوليو مرةً أخرى

 

كتب – د. عيدروس نصر ناصر النقيب.

قريباً ستعود علينا الذكرى التاسعة والعشرين للسابع من يوليو يوم إسقاط الجنوب بأيدي قوات تحالف 1994م، بعد عدوانٍ وحربٍ  وغزوٍ علم به القاصي والداني.

في العام 2008م كان كاتب هذه السطور قد نشر مقالاً على فيس بوك تناقلته بعض الصحف والمواقع الإلكترونية ناشد فيه القيادة الحاكمة حينها بأن تكُفَّ عن الاحتفاء بعيد 7 يوليو باعتباره يمثل استفزازاً لمشاعر المواطنين لجنوبيين الذين تجرعوا مرارات هذا اليوم الأسود. ومباشرةً شرعت المواقع والصحف الصفراء في شن حملة تستهدف صاحب المنشور، واتهم أحد “الكَتَبَة” العبدَ الفقيرَ لله بأنه كان يذبح الأطفال في 13 يناير 1986م، ولأن الصفاقة والوقاحة لا تحتاج إلى براهين، فأن الكويتب الذي نسيت اسمه واسم صحيفته لم يكن يهمه أن يعلم أنني كنت حينها طالباً للدراسات العليا في الخارج وأنني طوال عمري لم أدخل أي معركة مسلحة، وربما لسوء حظي أو لحسنه، لا أجيد استخدام السلاح إلا في حدود (التنصَّاع) كواحدة من عادات أهل الريف الذي أنتمي إليه.

أعتذر لانسياقي في التعرض لذكرياتي الشخصية لكنني قبل الاسترسال في موضوع منشوري هذا أشير إلى إنني حينما تقدمت بدعوى قضائية لمحاسبة ذلك الكويتب، أتذكر أن وكيل النيابة الذي تولى الملف قال لي : إبشر سآتي لك بهذا الدعي وأدخله السجن للتطاول على شخصك المحترم، لكن ما جرى هو نقل وكيل النيابة وتعيين وكيل آخر وانتهت القضية عند هذه النقطة.

ربما نسي أبطال السابع من يوليو احتفالاتهم بهذا اليوم ليس تخلياً عن بهجتهم بمنتجاته ولكن لانشغالهم بقضايا أكبر وأهم منه، بيد إن الجنوبيين لم ينسوا ولن ينسوا الذكرى البغيضة التي مثلها هذا اليوم الأسود في تاريخهم.

السابع من يوليو 1994م لم يكن مجرد انتصار طرف على طرف في الصراع السياسي المألوف طوال تاريخ اليمن شمالاً وجنوباً، ولا هو مجرد حسم خلاف بين طرفين اختلفا على أولويتين سياسيتين أو برنامجين سياسيين، بل لقد كان صراعاً بين مشروعين مختلفين جوهرياً: مشروع كان يتجه نحو تحديث اليمن كل اليمن (شمالا وجنوبا) والانتقال بها من عصر القبيلة ونظام الراعي والرعية إلى عصر المواطنة والعدالة والحرية والكرامة والتنمية، وبين مشروع الضم والإلحاق والتبعية واستمرار ثنائية التابع والمتبوع والأصل والفرع والراعي والرعية.

وللأسف كان أصحاب المشروع الأول يبنون تطلعاتهم على أحلام وتمنيات جميلة ونبيلة فوق المعتاد، لكنها كانت بدون أرضية اجتماعية وثقافية عصرية وناضجة لأن الأرضية التي بنوا أحلامهم عليها والواقع المادي الذي استندوا عليه كانا ينتميان إلى زمن غير زمن القرن العشرين والواحد والعشرين القادم على الأبواب، وبمعنى آخر فإن الحالمين النبلاء كانوا يعتمدون على ما في مخيلاتهم من تصورات نبيلة وأحلام جميلة وليس على ما في الواقع الحياتي من معطيات مخالفة لكل تلك الأحلام والرومانسيات المبهرة التي تبخرت بمجرد انطلاق أول قاذفة مدفعية وأول طلقة كلاشنيكوف .

لم يكن السابع من يوليو مجرد انتصار طرف سياسي قوي على طرف سياسي ضعيف بل كان انتصارا لزمنٍ على زمنٍ، كان انتصاراً لقيمٍ على قيم ومعاييرَ على معايير.

في السابع من يوليو 1994م لم يسقط الحزب اللاشتراكي قائد الدولة الجنوبية وصاحب المشروع المدني الديمقراطي ودولة النظام والقانون، بل سقطت كل أحلام اليمنيين في الشمال والجنوب بدولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية.

بيد إن المعنى العميق لهذا اليوم الأسود بالنسبة للجنوبيين يتجسد في العودة بهم القهقرى إلى أزمنة القهر والغبن والتمييز والتبعية وفقدان الانتماء والاغتراب الداخلي الذي جعل ملاين الجنوبيين غرباء داخل أرضهم ممنوعين من أبسط حقوقهم التي اعتادوا عليها على مدى عقود بما في ذلك أبسط مقتضيات الحياة الآدمية العادية من حق العمل والتعليم والاستشفاء والأمن والتقاضي العادل وحق التعبير والمواطنة المجسدة للانتماء والشراكة في صناعة المستقبل.

السابع من يوليو 1994م كان عنوان انتكاسة تاريخية بالنسبة للجنوب والجنوبيين تراجعت معه حياتهم إلى مستويات القبيلة القادمة من القرون الوسطى سفراً تراجعياً من القرن العشرين إلى تلك الأزمة المغبرَّة بعتمة الجهل والهمجية والغوغائية المقيتة التي أوصلت مدينة مثل عدن إلى ما هي عليه اليوم من تدهور وانهيار  يشمل كل ميادين الحياة العامة والخاصة .

وللحديث بقية