fbpx
مفتاح باب المندب مع مَن؟

هاني مسهور

التوترات على باب المندب وفي بحر العرب تثير سؤالاً عريضا حول هذا الباب ومَن المعنيّ بضبطه أمنيًّا؟

وواقعية الموقف بعد هجمات جماعة الحوثي الصاروخية على إسرائيل تتطلب إعادة النظر حول حقائق مهمة في هذا الجزء الحيوي من العالم. فقد شهدت عدن، وهي المعنيّة تاريخيّا بأمن الملاحة البحرية بحكم موقعها الجغرافي، عبر العصور والأزمنة محاولات إمبراطوريات فرض سيادتها عليها كدليل على القوة والمكانة. ولهذا بقي باب المندب موقعا للتنافس الدوليّ تسابق عليه البرتغاليون والبريطانيون والفرنسيون والعثمانيون منذ القرن الخامس عشر، وفي عام 1839 فرضت بريطانيا سلطتها واستعمرت عدن على مدار 129 عاما، حتى أنها اعتبرتها “درة التاج” لمكانتها بين المستعمرات في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

بعد استقلال اليمن الجنوبي عام 1967 عرف هذا الموقع أهمية أكبر متأثرا بالصراع العربي – الإسرائيلي، التحول فرضه الرئيس جمال عبدالناصر بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1965، حيث تشكل مفهوم الأمن القومي العربي باعتباره تكاملاً في الممرات المائية، فلم تكن هناك سيادة على قناة السويس التي أجبرت بريطانيا على الجلاء عنها دون ضمان السيادة العربية على عدن. المصريون قدموا دعمهم للجبهة القومية التي نجحت في إجبار البريطانيين على الجلاء عن المستعمرة والمحميات الشرقية، وهو ما مهد الطريق لإعلان دول الخليج العربية استقلالها الوطني وأكدّ بالتالي صحة مفهوم تكامل الأمن القوميّ العربي.

ومع حرب الاستنزاف المصرية أصبح باب المندب وبحر العرب جزءا مما اصطلح عليه بـ“العسكرة” نظرا لحدة الموقف الجيوسياسي، حيث فرض اليمن الجنوبي خلال حرب أكتوبر عام 1973 مع الأسطول المصري إغلاقًا في وجه السفن العسكرية الإسرائيلية ونزلت القوات المصرية في جزيرة ميّون، وهي النقطة الأهم في منطقة العبور بباب المندب. كما أن هذه الجزيرة كانت واحدة من المناطق التي تدربت فيها عناصر حركة فتح الفلسطينية من بعد اعتراف اليمن الجنوبي بها بعد قمة 1964 في القاهرة. ولم يعرف هذا الجزء من العالم اختراقا أمنيًّا حتى نهاية اليمن الجنوبي عام 1990، رغم العلاقات المتوترة خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

خلال حرب صيف 1994 توافد الأفغان العرب وشكلوا في عدن قوة وجدت غطاء سياسيّا من خلال الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحليفه آنذاك حزب التجمع اليمني للإصلاح، ذراع جماعة الإخوان في اليمن، ليتشكل في جنوب اليمن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وكان أول تشكيل لتنظيم إرهابي في العالم، بدأت عملياته باستهداف قوات أميركية في العاصمة السعودية الرياض عام 1995 وقد أودت بحياة خمسة جنود تلتها عملية في مدينة الخبر بسيارة مفخخة عام 1996 خلفت 19 قتيلاً. وفي عام 2000 استهدفت المدمرة الأميركية كول في أكبر عملية انتحارية عرفتها هذه المنطقة وأعطت الإشارة الأخطر على التواجد الإرهابي الواسع لتنظيم القاعدة.

تمتعت الجماعات المسلحة المُؤَدلَجة بحرية في أنشطتها مستفيدة من نفوذ جماعة الإخوان في السلطة السياسية، ومع الانقلاب الحوثي على الشرعية عام 2014 تشكل واقع مهم بمحاولة الحوثيين فرض سيادتهم بدعم من الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الذي دفع بقوات الحرس الجمهوري إلى احتلال عدن، وهذا ما حدث بالفعل في نهاية ذلك العام. وفي عام 2015، واستجابة لنداء الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، تدخل التحالف العربي تحت القرار الدولي رقم 2216 وظهرت للمرة الأولى دولة الإمارات العربية المتحدة بقواتها العسكرية في هذه المنطقة من العالم.

دعمت القوات الإماراتية المقاومة الشعبية الجنوبية في عدن التي اعتبرت نقطة ارتكاز للعمليات الحربية، ونجح الإماراتيون مع الجنوبيين في تحرير مدينة عدن بعد ثلاثة أشهر من المعارك، وأمنت القوات الإماراتية تحت قيادة التحالف العربي حماية الممرات الملاحية في عدن، إلا أن ذلك حتم عليها توسيع نطاق عملياتها لتطهير المحافظات الجنوبية من عناصر التنظيمات الجهادية، ومن لحج إلى أبين، وحتى تحرير عاصمة حضرموت المكلا في أبريل 2016، تلقى خلالها تنظيم داعش والقاعدة وأنصار الشريعة ضربات قوية واضطر عناصرها إلى إخلاء مواقعهم والاحتماء بالجبال والأودية، ومنها عاودوا هجماتهم الانتحارية التي أصابت القوات الإماراتية أكثر من مرة، كما واصلوا هجماتهم على القوات الجنوبية التي خاضت حروبا متعددة الجبهات لمطاردة التنظيمات الإرهابية التي حصلت على دعم وتمويلات مالية من جماعة الإخوان التي استفادت من وجودها ضمن السلطة السياسية الشرعية اليمنية.

وشنت جماعة الإخوان عبر منصاتها الإعلامية حملة تشويه متعمدة على الدور الإماراتي في اليمن عموما وفي المحافظات الجنوبية خاصة. الاستهداف الإعلامي العدائي بلغ ذروته من بعد أن تلقّت الجماعة ضربة قاسية عام 2019 عندما حاولت السيطرة على المدينة، إلا أن قوات الحزام الأمني تصدت لها، وفي هذا العام أعلنت دولة الإمارات نهاية عملياتها القتالية في اليمن، كما أكدت أنها أسهمت في تشكيل القوات الأمنية الجنوبية واليمنية لمكافحة الإرهاب مكتفية بدورها الإغاثي والإنساني الممتد تاريخيًّا منذ تأسيس الدولة الإماراتية عام 1971 وعلاقاتها مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية.

جزيرة سقطرى برزت بعد إعصار تشابالا المدمر، حيث تلقت هذه الجزيرة الإغاثة الإماراتية كما غيرها من المحافظات المحررة، واستخدمت جماعتَا الحوثي والإخوان كل ما يمكنهما الوصول إليه من المراكز البحثية في العالم لتضليل الرأي العام حول ما تقدمه الإمارات من مساعدات إنسانية اعتمدت إنشاء الوحدات السكنية والصحية والتعليمية لمساعدة الناس في ظل التعثر الخدمي الحكومي. ومع تعرض الموانئ الجنوبية لهجمات بالطائرات المسيّرة أوقف تصدير النفط والغاز مما انعكس على إيرادات المجلس الرئاسي، وكان لا بد من أن تُبقي الإمارات على مواصلة عملها الإغاثي للتخفيف من حدة الأوضاع الاقتصادية في عموم اليمن بما في ذلك المناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين.

وبعد تشكل المجلس الانتقالي الجنوبي انطوت كافة التشكيلات الأمنية تحت سلطته، وهو منخرط مع التحالف الدولي ضمن عملياته لتأمين الملاحة الدولية. وتتواجد اليوم في خليج عدن وبحر العرب وجنوب البحر الأحمر أساطيل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهي معنيّة بالمراقبة الملاحية بموجب القانون الدولي. وتقوم قوات خفر السواحل التابعة للقوات الجنوبية بمهامها تحت إشراف التحالف الدولي، إلا أن هجمات جماعة الحوثي التي أعقبت هجوم حركة حماس على إسرائيل وضعت المنطقة أمام أهميّة ما يمكن العمل عليه لحماية السفن التجارية التي تمرّ عبر باب المندب من هجمات القراصنة الصوماليين، وكذلك التنظيمات الإرهابية من جماعة الحوثي والقاعدة التي طالما حاولت زرع ألغام بحرية، وكانت قد أصابت سفناً تجارية وعرّضت الصيادين لمخاطر حقيقية. كما أن جهودا أممية وإقليمية نجحت في معالجة أزمة خزان صافر النفطي بعد تعنت جماعة الحوثي التي حاولت استخدامه لتهديد البيئة البحرية جنوب البحر الأحمر.

مفتاح باب المندب بيد المجتمع الدوليّ، والإمارات تقوم بما عليها من التزامات أخلاقية تجاه المجتمع الدولي للمساعدة على مواجهة الإرهاب العابر للقارات، والمتمثل في القرصنة الحوثية وإطلاق الصواريخ بعيدة المدى.

التنظيمات الإرهابية في اليمن تقتضي تقييما دوليا لإيجاد حلول واقعية للأزمة اليمنية، ولا بد من إعادة مفتاح باب المندب إلى أصحابه الجنوبيين ليقوموا بمهمتهم التاريخية بحماية ممر ملاحي تمر فيه 10 في المئة من تجارة العالم. ويجب التوقف عن اتهام الإمارات والتوجه إليها بالشكر على ما قامت به من تأهيل للقوات المعنية، أولًا وأخيرًا، بمهمة تأمين البوابة الجنوبية للعالم العربي.

 

العرب