fbpx
مقاربة نحو إيجاد حل للازمات المتكررة

 

مرجعية الارض هي محور الصراعات الظاهرة والخفية في اليمن

مقاربة نحو إيجاد حل للازمات المتكررة   

————————————————–

د. فضل الربيعي 

يمر اليمن اليوم في منعطف خطير جدا  فهو قادم على صراعات وحروب كما تبدوا ملامحها في الافق ، وهذا الوضع هو حصيلة لما خلفته النظم الاستبدادية وثقافة الاستقواء ومصادرة حقوق الاخرين وزيادة المظالم وتبديد الثروة والفساد المستمر للسلطات طوال المراحل السابقة التي انتجت هذا الوضع ورسخت ثقافة الاستبدادية والغلبة والولاءات الفردية والجهويه التي لم تقر بخصوصية التنوع المكاني والاجتماعي لليمنيين .

وعدم  التفهم للخصائص الرئيسية لليمن الذي يتصف بالتنوع  في انتماءاته المجزؤه والمتجذره في التنظيم الاجتماعي وفي السلوك الاجتماعي ، التي تشكلت عبر مراحل التاريخ الطويل ، فانتشار السكان على رقعة الارض ” المكان” هي التي كونت التجمعات البشرية والتنظيمات الاجتماعية بدءا بما عرف بالقبائل والشعوب ومن ثم الدول ، هذه التكوينات قد حملت سمات التنوع المكاني واتصف كل مكان  بسمته الخاصة في نمط العيش والثقافة والتنظيم الاجتماعي ، وقد لعبت المرجعيات المكانية هذه دوراً أساسياً في تفاعل الانسان عبر التاريخ الاجتماعي من الماضي التقليدي إلى الحاضر السياسي والتي تتخذ فيها المرجعيات طابعاً تقليداً متأثراً بمرجعية الارض كمرجعية رئيسية .

ان أهمية أي جماعة قطريه تأتي من أهمية الارض التي تشغلها وتكونت عليها النظم الاجتماعية ، والدول الحديثة.  وفي اليمن تتصف الارض  بأنها شديدة التعقيد والتنوع الذي توزع فيها الناس بين مجموعات سكانية أو شعوب ومجتمعات محلية متجاورة مستقرة لها طابع الحكومات والدول المستقلة والإقليمية التي تمثلت سياسياً في مجموعة اتحادات شكلت دول بذاتها  مثل ” سبأ ، معين ، حضرموت، حمير، قتبان ” وكانت الحياة مزدهرة فيها . والمفارقة العجيبة هي ان اليمن في عهد هذه الدويلات عُرف بأنه كان  بلد اشعاع للحضارة بينما يعيش اليوم في تخلف مريب !!

إذ شكل اليمن بانو راما ” فسيفسائية”  متأثر بالمرجعية الام” الأرض” التي  اُستند عليها التكوين الاجتماعي والثقافي والتنظيم السياسي ،حيث لعب المكان الدور الحاسم في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمرتبط بالتجمعات القبيلة والعشائرية والجهوية والتي استقرت بشكل الدولتان في الشمال والجنوب في الوقت الراهن ، وجاء التمييز تبعاً للأرض ، فدولة الجنوب كانت تستند على مرجعية الأرض ولهذا فالمطالبة باستعادة الدولة هو استعادة لهوية هذا التكوين المنتمي إلى هذه الارض الذي تشكل فيها المجتمع عبر مئات السنين وقامت عليها الدولة فيما بعد ، فمرجعية الارض أو عبقرية المكان كما يقول علماء الاجتماع هي التي تولدت عليها المرجعيات السياسية والثقافية ، والاجتماعية،  ليس في اليمن فحسب ، بل في كل المعمورة .

فالثقافة التي تعاملت وتتعامل مع الجنوب كانت تستند على التمييز المكاني  تقابلها ردة الفعل المكانية بالضرورة .

ان عدم الاعتراف بالحق الشرعي لشعب عاش مئات  السنين   في كيان مستقلة  لا يمكن الغائه عبر ما سمي بوحدة تقوم على التهامه  وتشريد اهلة والتحكم بثروته ، لصالح قلة من الناس وعدم الاعتراف بهذا الحق  قد تجسد في الالغاء على صعيد الواقع  والفكر معاً فعلى صعيد الواقع تم التدمير الممنهج للجنوب منذ حرب 1994م، وعلى صعيد الفكر تم انكار هذا الحق بالحديث عن مفاهيم صماء مثل اليمن الواحد ، والشعب الواحد والأرض الواحدة وعودة الفرع الى الاصل ،  مفاهيم حاولت اخفاء صوت الحق القائم على اساس الشعبين والدولتين  التان دخلى في مشروع وحدة ، حيث اختفت فيه الوحدة من الواقع  وبقي الحديث عن الوحدة  المجردة والمراد منها اخفاء مطامع وتصرفات اشخاص وفئات ليس إلا ، سوقت لخطاب يقوم على نكران الاخر وعدم الاعتراف بالحق الذي انطلقت منه فكرة ومشروع الوحدة  والتي تعود إلى الشعبين والدولتين كانتا في الاصل قد تكونتا عبر زمن طويل.

 فالاعتراف بالحق هنا ينفي ما تزعمه المفاهيم الصماء ” واحديه الثورة وواحدية التاريخ وواحدية الارض ” فهذه شعارات استهلاكية فقط تخفي ورائها طبيعة الاستبداد السياسي ومصادرة الحقوق .

ولم تستطع الدولة الرائفة أن تعمل على خلق نموذجاً للمواطن والوطن المزدهر والمواطنة الواحدة التي تذوب فيها ثقافات الغلبة والاستقواء والإقصاء للأخر رغم ما زُعم عن انجازاتها او ما يزعم حاليا نحو اعادة بنائها او بمجرد وجود تلك المظاهر الشكلية لها .  فتأثير المكان بقي عاملا حاسما في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمرتبط بالتجمعات القبيلة والعشائرية والجهوية .

فمازالت الهوية الحقيقة إلى اليوم هي من أين أنت وليس من تكون بشخصك ، اذ كان المكان وما زال  هو المحدد الرئيسي للشخصية ومحور الصراعات الظاهرة والخفية في اليمن عموما ، وبهذا التكوين  نجد ان اليمن مقسمة الى ثلاثة مرجعيات اسياسية هي :

  1. 1.    قسم يمثل الشمال الجبلي ” اليمن الاعلى ”
  2. 2.    قسم يمثل الوسط الهضبي والسهلي (اليمن الاسفل).
  3. 3.     قسم يمثل الجنوب الساحلي والصحراوي. ” دولة الجنوب”

وقد افرز اليمن الاعلى “الشمال الجبلي ” مرجعية قبلية تقليدية ثابتة تحكمها العلاقات المكانية القرابية المتجذرة في شكل الحكم القائم حتى اليوم . أما اليمن الاسفل ” الوسط الهضبي والسهلي ”  أفرز مرجعية قروية أقل تقليدية وهي أكثر حركة ، تسودها العلاقات الاجتماعية المكانية والقروية .

وكانت الدولة التي عرفت باسم “الجمهورية العربية اليمنية ” قد ظهرت في الشمال الجبلي الاعلى والوسط الهضبي والسهل . ومع ذلك ظل الانقسام واضح بين اليمن الاسفل والأعلى تمثل في انماط السلوك وتحت هذا الانقسام كانت تدار الصراعات الخفية.

   بينما الجنوب عرف ككيان في دولة مستقلة تميز بانفتاحه على العالم الخارجي من وقت طويل اكان عبر الهجرات او بسبب الاستعمار البريطاني ، حيث افرز مرجعية تجارية مدنية حيث مثلت عدن وحضرموت المكان الرئيس لهذه المرجعية ، وهي مرجعية تنشد العلاقات العقلانية التعاقدية المتحررة من الروابط التقليدية التي تتحكم بها العلاقات القرروية والقبلية. ظهرت الدولة الوطنية في الجنوب الساحلي والصحراوي بعد رحيل الاستعمار البريطاني والتي عرفت باسم ” جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية “.التي تقابل دولة الجمهورية العربية اليمنية ، استمرت الدولة في الجنوب حتى دخلت في وحدة غير مدروسة عام 1990م ، مع دولة الشمال  ، فشلت في الواقع وحولت الجنوب الى تابع للشمال وهي احد تجليات الصراع الدائر اليوم في اليمن. والتي لم تراعي ذلك التقسيم  الذي يشكل اساس المرجعيات المكانية وأنماط العيش والشخصية ، ونرى ان  النظر الى ذلك يعد المدخل الحقيقي لمعرفة حالات التشتت والصراع الدائم والدائر في اليمن والذي أضعف الانتماء الحقيقي للوطن الواحد اكان في الماضي أو الحاضر ، وقد انعكس ذلك سلباً على مستقبل الأمة ؛ بل كان ومازال سبباً في إعادة انتاج الحروب وغياب التنمية ، وما يجري اليوم مثل ظهور الحركة الحوثية كحركة دينية وسياسية ، أو قضية الجنوب ما هي إلا تأكيدا على تلك الاستحقاقات التاريخية المرتبطة بمرجعية  الارض .

 لذا فإن المشكلة لا تكمن في عدم التفهم لهذه الحقائق فحسب ؛ بل في محاولة انكارها نظريا     وممارستها واقعياً والابتعاد عن دراستها بعمق بوصفها محدداً رئيسياً لأنماط السلوك والفعل الاجتماعي والبناء الاجتماعي والصراع السياسي . ورغم كل التحولات التي شهدتها الدولة الحديثة في الشمال والجنوب سابقا أو بعد اعلان دولة الوحدة لم تستطيع ان تحدث تحول حقيقي لمصلحة الجميع ، بل بقي الوضع كما هو يحمل في طياته ملامح هذا التقسيم الثلاثي الاجتماعي والسياسي والطائفي والجغرافي حيث غلب الطابع العسكري على الشمال والشمال الشرقي ، وفي الوسط الهضبي والساحلي تميز فيه الطابع القروي التجاري والرعوي  . اما في الجنوب فقد ساد فيه الطابع القريب إلى المدنية الذي اصطدم مع مرجعية السلطة القبلية والرعوية وإعاقة التوجه المدني فيه.

يمكن القول إن هذا التشكيل هو المحدد الرئيس للطابع الخفي للهويات الفرعية بصيغها الرئيسية ، وإذا ما تم الاعتراف بهذا الواقع سوف نتجه من خلاله  نحو معالجة شاملة وحقيقية للازمات السياسية وهي الضمان الاكيد لأنها حالات الالغاء والتهميش والاعتراف بهذه الكيانات .

فدولة الوحدة – المغدور بها  1990-2013 م – لم تستطيع أن تخلق قيم ثقافية وحدوية وطنية بل على العكس من ذلك ربما ساعدت على عودة عجلة التاريخ خطوات الى الوراء  وساءت الاوضاع اكثر  مما كانت عليه قبل عام 1990م ، وقبل قيام الدولة الحديثة في اليمن 1962م؟؟   

 ولم تستطيع تلك التوجهات -الحالية كما يبدوا – ان تعالج فعليلاً  اثار الحرب على الجنوب بل مازالت الحرب  حتى اليوم قائمة  الامر الذي خلقت انقسام نفسي واجتماعي بين الشمال والجنوب، وصراع في الشمال نفسه ممثل في حروب صعده واستمرارها اليوم في اكثر من مكان  .

ان الازمة الخانقة الحالية التي يعيشها اليمن ما هي إلا دليل على ذلك الانقسام الذي بقي المرجعية الوحيدة التي يدافع عنها الناس حيث لم يلحظوا انتاج مرجعية الدولة الواحدة الذي يحس الجميع بها  وتحفظ كرامتهم ، رغم ما يقال عن التطور الذي جرى في الحياة المادية وظهور اشكالاً من المؤسسات المدنية ، إلا ان علاقات الافراد مع بعضهم مازالت تحكمها القيم التقليدية المبنية على محددات القبيلة أو العلاقات  المناطقية والقروية والمكانية والجهوية. ولم تستطع تلك التحولات او التوجه الذي يقال عنه ان يؤثر على مراكز القوى التقليدية التي هي القوة والوحدة الاجتماعية الفاعلة في مجريات الاحداث . فتسمية شيخ مشائخ اليمن هي محاولة لاحتواء الدولة بالقبيلة وتقوم المرجعيات القبلية والمذهبية والمناطقية باحتوائها واخترقها  لمهام الدولة حيث تحاول استعادة دورها والحفاظ علية من خلال المؤسسات  الحزبية والمدنية  والتجارية والإعلامية كما تظهر ابسط تجلياتها اليوم في مجال الاعلام والقنوات الفضائية  مثل قناة سهيل والمسيرة وأزال و السعيدة واليمن اليوم .

  يمكن القول ان التحولات المنشودة لا تستطيع الوصول الى اهدافها فالثقل الديمغرافي  في الشمال بقي محتكراً من قبل المرجعيات التقليدية ولعل ما جرى في عام 2011م والمتمثل في اجهاض ثورة التغيير هو خير شاهدا على ذلك . كما عمل ويعمل نظام صنعاء على احياء القيم القبلية في الجنوب ويحاول اليوم تصدير الارهاب اليه وتشتيت وحدته الاجتماعية في ظل ادعائه بالوحدة ، ان بطش النظام وممارسة المظالم على الجنوب هي من استيقظت اللحمة الوطنية الجنوبية التي تبحث عن حامل جديد لها يعيد قوتها المدنية  ويحقق  الكرامة لأبنائه .

فقضية الجنوب اصبحت من أهم القضايا الرئيسية اليوم وعندما نقر بان للجنوب قضية لابد ان نعرف ان قضية الجنوب هي مع الشمال وليس مع موزنبيق!  وهذا السياق يمكن ان تعالج قضية الجنوب .

ان الاقرار بان اليمن كان يعيش حالة من الازدهار في ظل كانت مجتمعات اخرى في ظلام  فقد ظهرت في حضارات مزدهرة مثل : حمير ، قتبان ،وسبا ،وحضرموت ومعين ،.اليس ذلك دليل واضح على طبيعة اليمن التي تمتاز بالتنوع الحضاري والثقافي والمناخي وهي دليل ايضاً على سمت هذا التكوين الذي يستند على مرجعية الارض ، ولماذا لا نقر بهذا التنوع  الطبيعي الم يكن عامل جديد للاستقرار والازدهار .

اليس التوحيد في ظل ثقافة الإستقوا هو السبب الرئيس لتخلف اليمن . دعونا نجرب إعادة تلك التجربة  التي ازدهر في ظلها اليمن بشكل واقعي . ودعونا نجرّب ما نخاف منه عسى يكون خيراً على الجميع .

اليوم هناك موقف جامع في الجنوب على رفض الوحدة التي التهم لماذا ننكر ذلك ، اليس هذا حق من حقوقهم ؟ ام ان عليهم الاقرار  بالوحدة او الموت كما  يدعي امراء الحرب ؟؟

ان وحدة اليمن الاعلى مع الاسفل لم ينتج عنها وحدة حقيقية في الشمال واذابة  ذلك التميز المناطقي والاجتماعي، كما ان وحدة الشمال مع الجنوب هي الاخرى قد فشلت ولم تنجح  وهي جوهر الازمة الراهنة اليوم في اليمن .

ان تسويق مشروع الاقاليم بدون تحديد واضح لطبيعة هذه الاقاليم وإطراف الدولة الاتحادية وشكلها  تبقى الامور مفتوحة ومرشحة نحو التعقيد !

وعليه  ان الاقرار الواقعي في رأي  هو ذلك الذي يستند بتقسيم اليمن إلى مرجعيتها الثلاث في دول يجمعها مجلس تعاون اتحادي ، دعونا نفكر بهذا المنطق الذي كما اتصور صعوبة قبوله من قبل البعض الذي ربما يحملون مواقف مناقضة مما يدعونه في حفاظهم على وحدة اليمن .

لماذا لم نعيش الوحدة التي نأمل فيها ان نعيش في عزة وكرامة واستقرار للجميع  اذا كان ذلك يتم في اطار ثلاث دول في اليمن فهو افضل من ان  نعيش تجزئة  وحروب في اطار وحدة  لا اساس لها في النفوس وفي الواقع ؟

ان الوحدة الحقيقية  هي الاعتراف بحقوق الاخرين باستحقاقاتهم الحضارية والتاريخية والمذهبية ، الاعتراف بثقافات التنوع هذا  والاعتراف المتبادل هو الضمان الاكيد لقبول الكل ، ان قبول الاخر لا يتم في الوحدة الزائفة هذه ؛ بل قائم على اليمن المتنوع  طبيعياً وحضارياً وثقافياً في مرجعياته المكاانية تجمعها خصائص مميزة ويمكن ان تشكل دول حديثة مزدهرة متنافسة ومتعاونة ومتعاضدة في المنطقة.